مخبر المخطوطات برقادة: رحلة عبر العصور تسرد فصول التاريخ وتكشف ثراء الزّاد المعرفي القيرواني

لا أحد تطأ قدماه مدخل المخبر الوطني لصيانة وترميم الرقوق والمخطوطات برقادة من ولاية القيروان يدرك حجم الكنوز والنفائس الثمينة الموجودة خلف تلك الأبواب والتي ستمضي به في رحلة عبر الزمن بين أروقة العلوم القديمة والفلسفة والفنون نحتت فصولا من الحضارة الإنسانية لعصور مضت.

هذا المخبر الذي تحصل يوم 5 أكتوبر الماضي على جائزة مؤسسة العام في العمل التراثي العربي التي يسندها معهد المخطوطات العربية في الرياض بالمملكة العربية السعودية، يبدو في ظاهره مجرد مبنى إنما هو عالم صغير ينبض بتاريخ عريق ويحوي تراثا لا يقدّر بثمن يسكن بين صفحات المخطوطات القديمة والرقائق التاريخية تسرد قصصا لم يفصح عن تفاصيلها.

ويعدّ المخبر الوطني لصيانة وترميم المخطوطات برقادة القيروان مؤسسة وطنية ترجع بالنظر إلى المعهد الوطني للتراث، تأسس سنة 1994 بأمر رئاسي وذلك للحفاظ على الرصيد الوطني من المخطوطات العتيقة .

تقول الدكتورة منال الرماح المكلفة بالإشراف على المخبر ورئيسة مصلحة الدراسات وأعمال الترميم والصيانة والفهرسة والتوثيق إنّ فكرة تأسيس هذا المخبر انطلقت سنة 1982 وأنّه جرى تكوين أعوان من المخبر بألمانيا لمدة سنوات في مجال صيانة وترميم الرقوق والمخطوطات. وتم سنة 1994 إنشاؤه بصفة رسمية بأمر رئاسي صادر يوم 18 نوفمبر 1994.

وتوضّح أنّ الرقوق هي المخطوطات المكتوبة على الرقّ وهو مادة مخصصة للكتابة من أصل حيواني أي جلد يقع ترقيقه بعد إزالة الوبر في الماء والجير والزرنيخ ثم يقوم الناسخ بكشطه بواسطة آلة حادة لإزالة رواسب اللحم الموجودة في الجلد ثم يقع تجفيفه من ثمّة ترقيقه ليصبح مادة جاهزة للكتابة.

كما تشير إلى أنّ المادة الثانية التي استعملت لكتابة المخطوطات واعتمدت في القيروان هو الورق وهو أصل نباتي مستخرج من أوراق الشجر.

 صوت العلماء ..

تؤكّد رمّاح أنّ المخطوطات التي يحتويها مخبر رقّادة هي"صوت العلماء" وأنّ العاملين بالمخبر وكذلك ضيوفه يعيشون من خلالها رحلة عبر الزمن في رحاب علماء القيروان التي كانت عاصمة الإسلام الأولى بإفريقية وعرفت نهضة علمية وثقافية بعلمائها وادبائها باعتبارها كانت همزة الوصل بين المشرق والمغرب.

وتشير إلى أنّ المخبر يحتفظ بأكثر من 100 ألف قطعة من المصاحف المكتوبة على الرقوق جلّها مكتوب بالخط الكوفي وكذلك بماء الذهب بما يسمح بدراسة تطوّر الخطوط وتطور فنون الزخرفة في الكتابة العربية المخطوط.

كما يتضمن قسم آخر وهو قسم المخطوطات الفقهية التي تحتوي على تراث علماء القيروان ويتضمن أكثر من 50 ألف قطعة من الرق وتفاسير لابن سلام ومدونة الامام سحنون وكتاب احكام السوق إضافة إلى مخطوطات فقهية نادرة وهي المخطوطات الأم أو الاصلية التي تعدّ نفائس المخطوطات.

ويحتوي المخبر أيضا وفق، رمّاح، مجموعة من العقود كعقود الزواج التي كتبت على طريقة القيروان وعلى طريقة أروى القيروانية وهي عقود تعود إلى الفترة الممتدّة من القرن الخامس هجري الى القرن الـ 13 الهجري وتبيّن الحياة الاجتماعية والثقافية لمدينة القيروان في تلك الفترة بين القرن 11 ميلادي و19 ميلادي.

كما يتضمن مجموعة من المخطوطات المكتوبة على الورق التي تم تحبيسها على زوايا في مدينة القيروان التي تمثل مراكز روحية ودينية وتعليمة بالمدينة مثل زاوية الصحابي أبي زمعة البلوي وزاوية عبيد الغرياني وزاوية العالم القيرواني محمد الجديدي وخلفه من بعده عبيد الغرياني.

وتوضّح المتحدّثة أنّ الزوايا في تلك الفترة كانت تلعب دورا اجتماعيا ودينيا وتعليميا وأنّ العائلات القيروانية ساهمت من خلال تلك المخطوطات التي تم تحبيسها على الزوايا في اثراء رفوف المكتبات.

 الصيانة والترميم...

تقول الدكتورة رمّاح إنّ عملية الصيانة والترميم تتمّ عبر تقنيات متقدّمة في ترميم المخطوطات وهي تقنيات تشمل التنظيف الجاف لإزالة الاوساخ من على سطح المخطوطة باستخدام مواد تنظيف غير كيميائية وإصلاح التمزّقات باستعمال مواد لاصقة مناسبة لإصلاح الشقوق في الصفحات المتضررة وترميم الأجزاء المفقودة بإضافة مواد جديدة تتناسب مع المواد الأصلية للمخطوط والتوثيق من خلال تسجيل كافة التفاصيل بدقّة مثل أبعاد المخطوطة ونوع الورق والأضرار الموجودة.

كما تشمل التقنيات أيضا استخدام تقنيات التصوير الرقمي لإنشاء نسخ رقمية عالية الجودة للمخطوطات بما يسهّل الوصول إليها ودراستها وكذلك التحليل العلمي لتحديد المواد المستخدمة في المخطوطة واكتشاف الأضرار الخفية إضافة إلى المعالجة الكيميائية والترميم اليدوي .

وتوضّح رمّاح وجود عدّة حشرات تفتك بالمخطوطات والرقوق على غرار الأرضة وهي دودة بيضاء صغيرة فتاكة تقتات على الورق والجلود والخشب والمواد العضوية وتتكاثر في المناطق ذات الرطوبة العالية ودودة الورق التي لا يتجاوز طولها 1 صم لكنها سريعة الحركة تتكاثر في ثنايا وطيات الكتب والمخطوطات والسمكة الفضية وهي حشرة صغيرة تعيش في الظلام سريعة الحركة وتتغذى على الجلود والورق والخشب وتنمو في درجة حرارة ما بين 16 و20 درجة ودرجة رطوبة عالية.

وتؤكّد في هذا الجانب أنّ مخبر رقادة يهتم بطريقة حفظ المخطوطات التي تعيش في بيئة معينة بين درجة حرارة 18و 22 درجة ودرجة رطوبة بين 40 و60 بالمائة وذلك لحفظها من التلف من خلال حفظها في صناديق خالية من الحموضة تحميها من الحشرات والغبار والاتربة وتحافظ على اصالتها باعتبار المخطوط ليس مجرد كتاب فقط او وثيقة صامتة بل هو نابض بالمعرفة والعلم والحكمة.

 رحلة في تاريخ المخطوطات ..

تقول رئيسة مصلحة الدراسات وأعمال الترميم والصيانة والتوثيق إنّ أقدم مخطوطات الفقة تعود الى القرن التاسع ميلادي بالنسبة للمصاحف وإنّ أقدم مخطوط هو مصحف "فضل" لكنها تؤكّد وجود مخطوطات غير مؤرخة وأقدم من "فضل"مثل المصحف المكتوب بالخط الحجازي المائل في حين أنّه في القيروان تم اعتماد الخط الكوفي في الكتابة ومخطوطات من صنعاء.

وتشير إلى وجود مخطوطات أخرى مكتوبة بخط كوفي عتيق شبيهة بمخطوطات صنعاء ومخطوطات مصاحف دخلت القيروان اثناء الفتوحات الإسلامية بما يؤكد وفق قولها رحلة المخطوط من مكان الى مكان.

 

وتؤكّد في هذا الجانب وجود مصاحف باذخة ذات قيمة علمية مثل المصحف الأزرق والرق فيه مصبوغ بمادة النيلة المستجلبة من التجارة الهندية وكتب بماء الذهب وزينت على باب الأعشار منه وفواصل الآيات بالفضة مشيرة إلى أنّ نماذج منه معروضة بمتحف رقادة.

كما يوجد بمتحف رقادة"مصحف الحاضنة" أي حاضنة المعز بن باديس (أحد الأمراء الصنهاجيين) نسخ في أكثر من 2500 قطعة ونسخه القيرواني علي ابن احمد البراق واشرفت على كتابته درة الكاتبة وهذا المصحف تم تحبيسه على جامع عقبة ابن نافع إضافة إلى مصحف أم العلو أخت المعز وأم ملال عمته.

طريق يتجاوز التخصّص...

بين جدران هذا المخبر تعمل أياد ماهرة وبدقّة فائقة على إنقاذ ما تبقى من أوراق ومخطوطات تعود لعصور مضت موظفة تقنيات حديثة إلى جانب خبرات تقليدية لتعيد إلى حياة ما كاد يندثر ولتكتشف أنّ المجهود لا يقتصر على مجرد الترميم والصيانة بل يكمن أيضا في الوفاء للتراث وتفاصيله والاعتراف بأهمية الذاكرة التاريخية في بناء الهوية الثقافية.

وهنا يؤكّد أيمن المجبري المختص في ترميم الرق والورق أنّ العمل داخل أروقة المخبر يحملك الى عالم مواز للواقع والعالم الذي نعيشه وتغزوه السرعة والتكنولوجيا الرقمية، موضّحا أنّ عمله بدائيّ نوع ما ويدوي يستوجب الكثير من التأني والدقة والتركيز وهي مسائل لا يمكن مجاراتها لو أنّك لا تحبّ هذه المهنة.

ويقول "إنّ طريق النجاح في عالم الرقوق والمخطوطات يتجاوز التخصّص وسنوات الدراسة" متابعا.."أحببت العمل كثيرا واتخذت قراري بأن اواصل في المجال بعيد مدّة قصيرة من قدومي إلى المخبر " .

وفي هذا الجانب يوضّح أنّ تخصصه كان في مجال الكهرباء لكن تخلّى عنه بعد قدومه الى المخبر في إطار دورة تدريبية وتتلمذ على أيادي أساتذة مكّنوه من اكتشاف أنها عملية دقيقة تستوجب الالتزام بعدم التدخّل في كتابات المخطوط بالزيادة او النقصان وتتطلب الكثير من المحبّة وحبّ المعرفة للمضي فيها .

الشيء نفسه يؤكّده فهمي الرمضاني الذي درس في مجال الإعلامية وقدم المخبر في إطار اتفاقية بين المخبر وجهة ألمانية تنصّ على تشغيل أصحاب الشهائد من العاطلين على العمل، إذ قال إنّه في بداية الأمر اعتبرها فرصة للعمل والكسب لا غير وهو المتخرّج الحديث، لكنّ البحث والتعمّق في المخطوطات والعلوم، وفق قوله، جعل العمل بين أروقة المخبر يؤسس لرغبته ومحبّته المضي في هذا العالم والغوص في أعماقه.

 ملتقى

إنّ المتابع للخطوات التي يخطوها الباحث أو العامل في هذا المكان الذي تسعى عدّة بلدان إلى كسب مثيله يرى أنّها ليست مجرد خطوات عادية، بل هي خطوات بدرب الحفاظ على إرث يستحقّ ألّا ينسى في زمن التكنولوجيا الرقمية ليبقى شاهدا على رحلة إنسانية في البحث والمعرفة وفهم الذات.

ويسعى القائمون في هذا الجانب إلى الحفاظ على هذا الإرث وضمان إشعاعه عربيا ودوليا وهو ما تفسّره الدورات التدريبية التي يحتضنها في مجال ترميم المخطوطات لفائدة مشاركين من جنسيات عربية وافريقية قصد تبادل الخبرات والاطلاع على التجربة التونسية الرائدة في المجال من جهة وتعزيز العمل المشترك لحماية التراث العربي والإفريقي وصونه لما له من مخزون تاريخي قيّم.

ويعتبر هذا المخبر الوطني اول مخبر يؤسس في افريقيا وهو مكسب جهوي لمدينة القيروان ويتطّلب بالنظر إلى ما يحتويه من مخطوطات نفائس التفكير في توسعته بما يمكّن من إنشاء أقسام أخرى مثل قسم التحاليل البيولوجية التي قد تفتح افاق شغل للدكاترة المعطّلين وقسم خاص بالتعقيم إضافة إلى توسعة أقسام الرقوق والورق وانشاء خزائن جديدة ملائمة لحفظ المخطوطات بما يمكّن من تطوير حفظ الإرث الثقافي مع التشديد على أنّ دراسة المخطوطات ليست علما خاصا بالتاريخ او الكيتوكولوجيا فقط بل يمكن دراستها من عدة جوانب تكنولوجية وفنية وتاريخية وحضارية بما يخلق فرص تشغيل جديدة.

وات

شارك:

إشترك الأن

تونس

14° - 23°
الخميس26°
الجمعة23°
السبت24°
الأحد22°
الاثنين22°
الثلاثاء23°
الاذاعة الوطنية
عيش الموزيكا
على اجنحة الليل
 إذاعة الزيتونة
حروف و ظلال
إذاعة القصرين
على اجنحة الليل

على اجنحة الليل

22:00 - 00:00

ON AIR
الاذاعة الوطنية
عيش الموزيكا
على اجنحة الليل
 إذاعة الزيتونة
حروف و ظلال
إذاعة القصرين