"صُنع بسحرك".. حين تعزف مدينة تونس العتيقة نغمها الخاص على إيقاعات "دريم سيتي" 2025

تتواصل فعاليات الدورة 10 لتظاهرة "دريم سيتي" التي تعيش على وقعها مدينة تونس من 3 إلى 19 أكتوبر 2025، هذا المهرجان الفني المتفرّد الذي جعل من مدينة تونس العتيقة مسرحا مفتوحا تتقاطع فيه الفنون البصرية والموسيقية والأدائية مع التاريخ والذاكرة والمكان. ومن بين أبرز محطات هذه الدورة يبرز المعرض الفريد من نوعه "صُنع بسحرك" الذي يستلهم عنوانه من الجملة التعليمية الشهيرة التي وُضعت لتيسير حفظ المقامات الموسيقية العربية، حيث يمثّل كل حرف من كلمتي "صُنع بسحرك" الحرف الأول لأسماء أحد المقامات الثمانية الأساسية في الموسيقى الشرقية. وهذه المقامات الثمانية التي يشير إليها العنوان "صُنع بسحرك" هي "ص = صبا" ون = نهاوند" و"ع = عجم" وب = بياتي" و"س = سيكا" و"ح = حجاز" و"ر = راست" و"ك = كرد".

ويقدم المعرض رحلة حسية وبصرية داخل أزقة المدينة العتيقة تمتد بين 10 مبان و8 مقاه، يتوقف فيها الزائر عند كل فضاء ليكتشف مقاما موسيقيا ويتأمل عبر الفن المعاصر أثر التاريخ في الحاضر وعمق العلاقة بين الصوت والمكان والذاكرة الجماعية.

ينطلق الزائر من دار الدغري حيث يستحضر المعرض تاريخ الموسيقى التونسية الحديثة، ثم يمر عبر سلسلة من المقاهي والمباني التي تحمل أسماء المقامات وهي مقهى المر?وم (مقام الراست) ومقهى مسرح الحمراء (مقام الكرد) ومقهى دجو (مقام الحجاز) ومقهى حسن (مقام السيكا) ومقهى تحت السور (مقام البياتي) ومقهى العباسية (مقام العجم) ومقهى ليالي زمان (مقام النهاوند).


في تصوّره لصنع بسحرك، يذهب المشرف الفني على هذا المعرض طارق أبو الفتوح إلى ما يتجاوز حدود الفن السمعي ليعيد قراءة المقامات كرموز ثقافية وتاريخية تعبّر عن الهوية العربية في تعددها وتحولاتها. فكل مقام من المقامات الثمانية يحمل خلفه قرونا من التفاعل الحضاري الممتد من المشرق إلى شمال إفريقيا ومن بغداد إلى القيروان ومن الأندلس إلى تونس، حيث تصاغ الأصوات كجسور تربط بين الشعوب والحقب الزمنية.

ويقول أبو الفتوح إن هذا المشروع هو خريطة من الأصوات والصور تسعى إلى إعادة الإنصات لتاريخ المدينة وهويتها من خلال الموسيقى، مضيفا أن المقامات هنا ليست مجرد أنغام بقدر ماهي ذاكرة حية لأمم عبرت وتفاعلت وخلفت أثرها في نغمةٍ أو لحن.

ويقدم المعرض أعمالا لفنانين عرب وأجانب من أجيال مختلفة تتقاطع في أسئلتها حول العلاقة بين الفن والسياسة، والذاكرة والمكان في حقبة معاصرة مليئة بالأزمات الجيوسياسية والتحولات الثقافية. ويؤكد أبو الفتوح في رؤيته على أن الفن المعاصر قادر على استعادة الذاكرة الجمعية وإعادة طرح الأسئلة الكبرى حول معنى الانتماء والهوية.

المقامات الموسيقية الثمانية في "صُنع بسحرك"

مقام الراست - مقهى المزموم و يُعرف الراست بـ"أبو المقامات" لكونه أصلا للكثير من الأنغام العربية. وهو مقام الاستقامة والاتزان تفيض نغماته بالسكينة والبهجة. ويُستعمل في الأذان وتلاوة القرآن لما يحمله من طابع روحاني. وفي الموسيقى التونسية يقابله طبع الرصد الذيل أو المحير عراق، ويسمع بكثرة في الأغاني الحضرية والرقص الشعبي.
وفي مقهى المزموم وسط المدينة العتيقة، يعيش الزائر تجربة حسية تجمع بين عبق التاريخ وصوت العود والكمنجة في لحظة صفاء موسيقي نادرة.

مقام الكرد - مقهى مسرح الحمراء . يتّسم مقام الكرد بعذوبة نغمه وهدوئه ويميل إلى البساطة والصفاء الداخلي. يُعتقد أن تسميته تعود إلى الشعب الكردي وموسيقاه الشعبية وقد ظهر في البلاد العربية خلال القرون الأخيرة. وفي تونس، لا يوجد مقابل مباشر له بين الطبوع التقليدية، لكنه وجد طريقه عبر التأثيرات الإسبانية واللاتينية التي رافقت الاستعمار الفرنسي. وفي مقهى مسرح الحمراء، يلتقي الزائر بمزيج من الفن المسرحي والموسيقي في تجربة تتجاوز الصوت إلى استحضار الذاكرة الجماعية التي صنعت هوية المدينة.

مقام الحجاز - مقهى دجو . مقام الحجاز هو مقام الوجد والشجن ذو طابع عاطفي درامي يستثير التأمل والخشوع ويستخدم في الآذان والإنشاد الديني. ويقابله في تونس طبع الإصبعين الذي ينتمي إلى نوبات المالوف الأندلسي. وتكشف المقارنة بين المقامين عن مدى امتزاج الموسيقى التونسية بجذورها المشرقية. وفي مقهى دجو بنهج فبريكات الثلج يتماهى الزائر مع نغمات تسافر بين الحجاز والمدينة وبين الروح والحنين.

مقام السيكا - مقهى حسن (باب الخضراء) . يلقب بـ "أم المقامات" لما يتسم به من دفء وحميمية. فهو يبعث في النفس شعورا بالألفة والقرب ويغلب عليه طابع الصفاء والهدوء الداخلي. ويقابله في تونس طبع السيكه أو الصيكة وهو من الطبوع المنتشرة في الموسيقى الصوفية والمالوف الشعبي. وفي مقهى حسن بباب الخضراء، تتحول الجلسة إلى فسحة تأملية تصالح الروح مع ذاتها في حوار موسيقي ناعم بين الشرق وتونس.

مقام البياتي - مقهى تحت السور. البياتي مقام العاطفة والفرح والوجد. يجمع بين العفوية والعمق وهو من أكثر المقامات قربا من الروح الشعبية، يستخدم في المواويل والأناشيد الصوفية. ويقابله في تونس طبع الحسين أحد أعمدة المالوف. ويستعيد مقهى تحت السور اليوم مجده القديم حين كان ملتقى المثقفين والشعراء في ثلاثينات القرن الماضي، فيتحول مجددا إلى فضاء يحتفي بالحنين والمقاومة والبهجة.

مقام العجم - مقهى العباسية. يقابل في تونس طبع المزموم. يمتاز بوقع مهيب يوحي بالعظمة والفخامة، لذلك يستخدم في الأناشيد الوطنية والحماسية. وفي مقهى العباسية بباب سويقة الذي كان ملتقى الأدباء والمناضلين، تتلاقى النغمة مع التاريخ في لوحة فنية تحتفي بالقوة والفرح.

مقام النهاوند - مقهى ليالي زمان (باب الأقواس) // مقام النهاوند مقام الرقة والتأمل يحمل طابعا وجدانيا، ويشبه المقام الصغير في الموسيقى الغربية ما يجعله قريبا من آذان الشعوب. ويقابله في تونس طبع المحير سيكاه وهو من الطبوع المستعملة في الأغاني العاطفية والإنشاد الصوفي. وفي مقهى ليالي زمان تطوف الموسيقى بين الشرق والغرب وبين الحنين والحلم حيث تتحول النغمة إلى مرآة للعواطف الإنسانية في أصفى تجلياتها.

مقام الصبا . مقام الصبا من أكثر المقامات تأثيرا في الوجدان العربي. يتميز بنغمة حزينة تلامس القلب مباشرة حتى قيل عنه إنه "مقام الدموع. يستخدم بكثرة في الموشحات والأناشيد التي تعبّر عن الفقد والحنين والتضرع كما يرد في التلاوات القرآنية في مواضع الخشوع. أما في الموسيقى التونسية، فيقابله من حيث الإحساس طبع الصبا الحسين أو طبع الرهاوي وهما من الطبوع التي تعبّر عن الأسى في نوبات المالوف والإنشاد الصوفي.


 أعمال مختلفة في فضاءات متعددة

وتشارك الفنانة الأمريكية من أصول لبنانية إيتيل عدنان بعمل يحمل عنوان "الشاطئ الزهري" تجسد من خلاله العلاقة بين اللون والضوء والذاكرة. وهذا العمل الذي يعرض في دار باش حامبة يعبّر عن الحنين إلى المكان والزمان ويعيد ربط المتلقي بالطبيعة وبجماليات الشرق المتوسطي.

يقدم الفنان العراقي منير صلاح عملا يجمع بين التوثيق والنقد السياسي، مستلهما شخصية المغني الساخر عزيز علي الذي استخدم فنه لمواجهة القمع. ويعرض الفيديو الذي يُقدّم في المدرسة الإعدادية بنهج فبريكات الثلج، رحلة فنان رفض الصمت فيتحول العمل إلى تأمل في علاقة الفن بالسلطة والإبداع بالرقابة والصدق الفني بالمقاومة.

تقدم الفنانة التونسية سنية قلال عملا تركيبيا ضخما أنجزته بالتعاون مع مجتمع المرازيق الرحّل في دوز بولاية قبلي. وهذا العمل عبارة عن منحوتة من شعر الماعز والجمال تتشابك خيوطها كأنها توازن بين الترحال والتجذر في الأرض. وتعرض المنحوتة في باب سويقة وتطرح أسئلة عن الصلة بين الإنسان والطبيعة والهوية في مواجهة التحولات الاجتماعية والبيئية.

يعيد الفنان الفلسطيني علي عيّال في عمله "الذاكرة والأثر" تركيب مشاهد من حياته الشخصية والعائلية، مستخدما وسائط متعددة تجمع بين الفيديو والرسم والنص والصورة الفوتوغرافية. ويستكشف العمل العلاقة بين الذاكرة الفردية والجماعية وكيف يمكن للفن أن يوثق ما تم محوه قسرا من التاريخ. ويعرض المشروع ضمن مسار المقامات في المكتبة العمومية بباب الأقواس.

وللإشارة فإن القائم على معرض "صُنع بسحرك" طارق أبو الفتوح فهو فنان مصري مستقل عُرف بإشرافه على مشروعات كبرى للفن المعاصر في العالم العربي وآسيا وأوروبا. شغل سابقا مناصب مرموقة في مؤسسات مثل آفاق للفن العربي والبيت العربي في مدريد ومؤسسة الشارقة للفنون في الإمارات العربية المتحدة. وشارك في تنسيق بيناليات ومعارض كبرى منها "وقت للفن" و"تاريخ غير مكتمل" و"ملفات عربية". ويركز في مشاريعه على العلاقة بين الذاكرة والمدينة والفن المعاصر. ويعمل على تطوير تجارب فنية تربط بين الفضاء العام والسياق الاجتماعي والثقافي المحلي.

شارك:

إشترك الأن

تونس

18° - 23°
الأربعاء26°
الخميس26°
الجمعة29°
السبت26°
الأحد27°
الاثنين29°
العشوية على الوطنية
LIVRE A LIRE
العشوية
الإذاعة الثقافية
المصحف الميسر
ymasikom
بالتوقيت المحلي
نبض المساء
أصايل
إذاعة القصرين
الإذاعة الثقافية

الإذاعة الثقافية

17:00 - 20:00

ON AIR
العشوية على الوطنية
LIVRE A LIRE
العشوية
الإذاعة الثقافية
المصحف الميسر
ymasikom
بالتوقيت المحلي
نبض المساء
أصايل
إذاعة القصرين