مهرجان الحمامات الدولي: "سيدة كركوان" تعيد إحياء مدينة فينيقية من تحت الركام

 وجدت المدينة الفينيقية كركوان سبيلها إلى النور من خلال عرض مسرحي بعنوان "سيدة كركوان"، بعد أن كانت حبيسة الكتب والمتاحف. وقد تم تقديم العرض الأول لهذا العمل، في سهرة الاثنين 28 جويلية، ضمن فعاليات الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي (11 جويلية - 13 أوت 2025)، أمام عدد كبير من عشاق المسرح والتاريخ.
ويستند هذا العمل إلى لحظة فارقة من تاريخ قرطاج، وتحديدا سنة 256 قبل الميلاد حين تعرّضت كركوان (في معتمدية حمام الغزاز من ولاية نابل) لهجوم شرس من الجيوش الرومانية بقيادة القنصلين "لوسيوس مانليوس فولسو لونغوس" و"ماركوس أتيليوس ريغولوس". وهذه المدينة التي لم يُعد بناؤها منذ دمارها، ما تزال شاهدة بصمت على عبقرية العمارة الفينيقية وثراء الحضارة البونية. وهذا ما جعلها مصنفة من قبل منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي في 28 نوفمبر 1986.
ومن خلال رؤية مسرحية مشتركة، أعاد المخرجان وجدي القايدي وحسام الساحلي إحياء هذا الفصل التاريخي بأسلوب يمزج بين التوثيق الفني والخيال المسرحي، مستلهمين شخصية "السيدة" من تابوت أثري حقيقي تم اكتشافه في سبعينات القرن الماضي، ليغدو هذا الرمز النسوي صوتا للذاكرة وراوية لتفاصيل حقبة منسية.
تتميّز "سيدة كركوان" ببناء فرجوي متكامل يجمع بين التمثيل والغناء والرقص التعبيري، مدعوما بعناصر رقمية سينوغرافية أعادت تشكيل الفضاء البونيقي بأسلوب بصري معاصر. وقد استعان العرض بخلفيات متحركة أضفت بعدا دراميا حيث ساعدت الإضاءة وتنسيق الحركة على إبراز التحول من مشاهد السلم إلى مشاهد الحرب. وتم اعتماد اللغة الفينيقية في أجزاء كثيرة من العرض مع ترجمتها على الشاشة في إضافة توثيقية ومعرفية قلّما وجدت في المسرح التونسي.
وتنقّل العرض بين مشاهد تجسد ازدهار المدينة الاقتصادي والديني والثقافي، وأخرى تنقل ملامح سقوطها نتيجة الاجتياح الروماني، في حبكة درامية تصاعدت تدريجيا وبلغت ذروتها في النهاية حيث التقت التراجيديا الجماعية بالمصير الفردي لشخصيات العمل.
ويعد هذا العمل تجربة مسرحية متفردة في المشهد التونسي من حيث تكامل عناصره الفنية. فقد تلاحمت الفنون الأدائية المختلفة ضمن رؤية إخراجية موحّدة، رافقتها سينوغرافيا صمّمت الفضاءات والتفاصيل بجمالية متقنة.
ومن أبرز عناصر العرض التي لفتت انتباه الجمهور هي الأزياء التاريخية التي عكست بدقّة روح العصر. فقد تمت الاستعانة بمراجع تاريخية لإعادة صنع أشكال اللباس الفينيقي من أزياء الجنود والكهنة والنبلاء إلى ملابس عامة الناس الباحثين عن القوت، وصولا إلى الزينة النسائية التي جسدت أناقة المرأة الفينيقية ومكانتها الاجتماعية. وقد تجاوز اللباس دوره الزخرفي ليصبح مكونا دراميا يعبّر عن التراتبية الطبقية والمناخ الثقافي والديني السائد آنذاك.
كما استند نص العرض إلى سيناريو أعدّه باحثون مختصون هم خولة بن نور وشادية الطرودي وأمين خماسي، بينما أدى الأدوار أكثر من أربعين ممثلا ومغنيا وراقصا من ولاية نابل من بينهم مريم العريّض في دور "السيدة"، إلى جانب منتصر بزّاز وعزيز بوسلام ونور عوينات وعز بن طالب وديما الساحلي. وتمثلت الحبكة في تداخل بين حدث تاريخي موثق (سقوط كركوان) وسرد درامي متخيل من خلال قصة حب مستحيلة بين شخصيتين تنتميان إلى طبقتين اجتماعيتين متصارعتين في رمزية للصراع الطبقي والسياسي آنذاك.
وجاءت قصة الحب كموقف إنساني هش وسط دوّامة من الصراعات والانهيارات، فابتعد العرض عن التناول العاطفي السطحي وفضّل معالجة واقعية تنطلق من مشاعر الشخصيات نحو تفكيك أعمق لبُنى تتعلّق بالمقاومة والصمود والهزيمة والخيانة وتقلبات التحالفات.
وتناول العرض كذلك مسائل متعددة دون الوقوع في المباشراتية، فصوّر الصراع بين كركوان (حليفة قرطاج) وروما كتناقض بين أنظمة حضارية ومصالح اقتصادية وجيوسياسية متداخلة. كما سلّط الضوء على أهمية مدينة كركوان كميناء استراتيجي ومركز تجاري وموطن لموارد طبيعية ما جعلها مطمعا للقوى العظمى. وقد تجلّت براعة التخطيط المعماري الفينيقي في المشاهد الرقمية التي استحضرت أحياء المدينة وأظهرت العلاقة العضوية بين الجمال والوظيفة في الفضاء العمراني.
وتظل "السيدة"، التي جسّدتها مريم العريّض، محور العمل ورمزه الأبرز. فهي تمثل المرأة التونسية العريقة الحاضرة في تقاطع الأسطورة بالتاريخ والتي لا تنكسر رغم المحن. فتحوّل الحب إلى ذاكرة والدمار إلى شهادة والموت إلى حكاية تُروى.
وجاء عرض "سيدة كركوان" كأنموذج لمسرح يحترم الذاكرة ويعيد بناءها استنادا إلى مراجع تاريخية دقيقة دون أن يقع في التقريرية أو التوثيق الحرفي. واستوفت المسرحية تقنيات المراوحة بين البعد الجمالي والأداء الجماعي.
ويفتح هذا العمل المسرحي الباب للتساؤل عن معنى المقاومة ومفهوم الانتماء ووظيفة المرأة في سياق التاريخ. وهو يندرج ضمن مسار ثقافي يحتاج إلى مزيد من الدعم والتمويل حتى يتحول إلى مادة فنية حية تعرض وتناقش حتى لا تبقى الذاكرة حبيسة المتاحف.
 

شارك:

سبر أراء

ما هي أنواع البرامج التي تفضلونها أكثر؟

عدد الأصوات : 245

إشترك الأن

فيلوصوفيا
فيلوصوفيا

فيلوصوفيا

01:00 - 02:00

ON AIR
فيلوصوفيا