"حوار الأوتار 2" لكمال الفرجاني على ركح مهرجان الحمامات: تحية لروح وناس خليجان وجسر ثقافي بين الشرق والغرب

تزامن العرض الموسيقي الأوركسترالي "حوار الأوتار 2" مع الذكرى السنوية الأولى لرحيل الفنان وناس خليجان (30 ماي 1958 - 22 جويلية 2024)، وهو رفيق درب الموسيقار والمايسترو كمال الفرجاني. وقد تم تقديم هذا العمل، الليلة الماضية 22 جويلية ضمن فعاليات الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي التي تقام من 11 جويلية إلى 13 أوت 2025 تحت شعار "نبض متواصل".
واستُهلّت السهرة بعرض فيلم وثائقي قصير تضمّن شهادات حية لأصدقائه وزملائه وسلّط الضوء على مسيرته الموسيقية الثرية التي جمعت بين الأصالة والتجديد. وفي تحية رمزية، أدى الفنان هيثم الحضيري أغنية "البستان" من ألحان الفقيد وبمرافقة مهدي الطرابلسي (بيانو) وشوقي كفاية (كنترباص).
هذا المشروع الموسيقي "حوار الأوتار 2" الذي بدأه كمال الفرجاني في نسخة أولى سنة 2006، هو تجربة فنية تعيد تعريف العلاقة بين الشرق والغرب من خلال مزج إبداعي بين الهوية الشرقية والأسلوب الأوركسترالي الغربي، دون أن تفرّط الموسيقى في أصالتها. وقد ضمّ العرض أعمالا موسيقية من تونس والجزائر وفلسطين والمغرب ومصر ولبنان وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا، أعيد توزيعها بأسلوب أوركسترالي معاصر، إلى جانب أغنيات عالمية بصياغة عربية كتب كلماتها آدم فتحي وخالد الوغلاني. كما تضمّن البرنامج أعمالا من تأليف وناس خليجان وكمال الفرجاني وسليم دمق وبثينة النابولي.
وتميّز العرض بتوزيع موسيقي محكم أشبه بعمل مسرحي تتقاسم فيه الآلات أدوارا درامية محددة، وهو ما أضفى على كل مقطوعة بعدا حكائيا خاصا. وارتكز الإخراج السمعي على التفاعل العضوي بين الآلات والصوت البشري حيث راهن المايسترو كمال الفرجاني على الأصوات كوسيلة تعبيرية ذات طاقة روحية وجمع بين خامات وتجارب مختلفة لتكوين فسيفساء غنائية متنوعة ومنسجمة في الآن ذاته.
وتنوعت المقاربات الموسيقية في "حوار الأوتار 2" منذ المقطوعة الافتتاحية "استخبار" التي ألّفها كمال فرجاني وقام بتوزيعها وناس خليجان، وصولا إلى إعادة توزيع أغنية "الليل يا روحي" (كلمات آدم فتحي وألحان إدواردو دي كابوا)، ومرورا بالأغنية التراجيدية "كبرت يا أمي" التي جمعت بين شعر نزار قباني وألحان كمال الفرجاني وتوزيع وناس خليجان.
كما شاركت في العرض مجموعة من الأصوات التونسية المتنوعة من مختلف الأجيال. وكانت الإطلالة الأولى تحية لفلسطين بصوت الفنانة رحاب الصغير بأغنيتي "زهرة المدائن" و"البلاد اللي تغني عليها"، ثم عادت لاحقا لتؤدي "محلى ليالي أشبيلية" و"كبرت يا أمي". أما هيثم القديري، فقد أدى "الليل يا روحي" و"كأنّا لا تعارفنا" (من شعر آدم فتحي وألحان جورج بيزي) بتوزيع كمال فرجاني.
وتميّز الفنان سليم دمق بأداء "أنا هويت" لسيد درويش في صياغة أوركسترالية مبتكرة. كما غنّى "كامل الأوصاف فتنّي" من ألحان محمد الموجي و"يا رايح" من التراث الجزائري (دحمان الحراشي) بتوزيع وناس خليجان، بالإضافة إلى أدائه لأغنيته الخاصة "ليامات".
بدورها، قدّمت بثينة نابولي وصلة من مقام "محير سيكا" شملت مختارات من التراث التونسي مثل "يا مقواني" و"آه وادعوني"، و"حزت البهاء والسر" (من ألحان خميس الترنان) و"آه يا خليلة" (من ألحان صالح المهدي) بتوزيع جديد لوناس خليجان ثم أتحفت الجمهور بأغنية "انحبك" من كلمات سيرين شكيلي وتوزيع إلياس بلاقي واختتمت مشاركتها بأغنية "يا بنت بلادي" من التراث المغربي عن كلمات وألحان عبد الصادق شقارة وتوزيع خليجان.
واختُتم العرض بأداء جماعي صادح لأغنية "القمر المصلوب" (كلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد وألحان حسين نازك وتوزيع وناس خليجان) في لحظة جمعت الأصوات جميعها لترسيخ الرسالة الجمالية والإنسانية للعمل في الانتصار لقضايا الشعوب وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والمناداة بالحرية والسلام.
ونجح "حوار الأوتار 2" في تقديم رؤى موسيقية جديدة للأعمال العربية والغربية على حدّ سواء. كما استثمر الشعر العربي المعاصر خاصة نصوص آدم فتحي وخالد الوغلاني في قوالب لحنية معاصرة تمزج بين الأصالة والتجديد. وقد نجح كمال الفرجاني في تنسيق الأصوات واختيار النصوص وإعادة تشكيل الألحان، ليقدّم تجربة فنية تعيد التفكير في العلاقة بين الشرق والغرب وتُعلي من قيمة الجمال والتنوع الثقافي والإنساني دفاعا عن قيم الحرية والعدالة والسلام.
// كمال الفرجاني: "حوار الأوتار" مغامرة موسيقية تحتفي بالصوت البشري وتعيد توزيع الأدوار داخل الأوركسترا
وعبّر المايسترو كمال الفرجاني، خلال الندوة الصحفية التي تلت العرض، عن اعتزازه بتقديم عرض "حوار الأوتار 2"، معتبرا إياه مغامرة فنية حقيقية. وأكد أن المشروع يراهن على إعادة توزيع الأدوار داخل التشكيلة الأوركسترالية، حيث لا تؤدي الآلات الموسيقية كلها اللحن ذاته كما هو معتاد في الموسيقى الشرقية وإنما تتحول كل آلة أو مجموعة آلات إلى شخصية مستقلة في "مسرحية موسيقية" تتقاسم فيها الأدوار بين الإيقاع واللحن والارتجال.
وأولى المايسترو أهمية كبرى للصوت البشري، معتبرا إياه "آلة هوائية ناطقة وساحرة" لا يمكن مقارنتها بأي آلة موسيقية مهما بلغت درجة إتقان العزف عليها، قائلا إن كل صوت يحمل بصمة فريدة لا يمكن تكرارها.
وأفاد أن الملحن والموزّع حين يكتب الموسيقى يتخيّل الآلة التي ستؤدّي المقطع، وفي الآن ذاته يختار بعناية الصوت البشري الذي سيحمل الرسالة الفنية. "ولهذا حرصتُ على إحاطة نفسي بأصوات متميّزة تنتمي إلى أجيال مختلفة تمتلك قدرات تقنية وتعبيرية عالية وكانت هذه أيضا رسالة من رسائل العرض أي لقاء الأجيال".
من جهته، عبّر الفنان هيثم القديري عن سعادته بالمشاركة في العرض، معتبرا لقاءه مع كمال الفرجاني صدفة فنية تحولت إلى منعطف جديد في مسيرته. وقال إن تجربته في أداء نصوص باللغة العربية أو بالدارجة التونسية وفق تقنيات الغناء الأوبرالي لم تكن سهلة، لكنها كانت ثرية جدا. وأضاف: "شعرت بالراحة مع النصوص التي كتبها الشاعر آدم فتحي لأنها وُضعت بشكل مدروس يراعي مخارج الحروف والتنفس وهذا أمر نادر".
من جانبها، وصفت الفنانة رحاب الصغير التي سبق لها أن شاركت في النسخة الأولى من "حوار الأوتار"، العرض بأنه "تجربة فنية سيخلدها التاريخ". وأشادت بحُسن اختيار الأصوات قائلة إن "كل مطرب في العرض تلقّى أغنية تناسب طاقاته ومقوماته وهو ما منح كل فقرة لونا خاصا ومختلفا عن الأخرى".
أما الفنان سليم دمق الذي سبق أن عمل مع الفرجاني في مشاريع موسيقية عابرة للثقافات، فقد دعا إلى إعادة برمجة العرض في مدن وفضاءات أخرى داخل تونس وخارجها، معتبرا أن "مشروعا بهذه القيمة لا يجب أن يُقدّم مرة واحدة فقط". وبيّن أن الموسيقى العربية قادرة على الوصول للقلوب مهما كانت اللغة أو الخلفية الثقافية.
وعبّرت الفنانة بثينة نابولي عن فخرها بالمشاركة، مؤكدة أن رغم انتمائها لعوالم الموسيقى الإلكترونية والشعبية والصوفية، فإن هذه التجربة جعلتها تكتشف طاقة غنائية جديدة بداخلها.