أيام قرطاج السينمائية 2025: "سماء بلا أرض" فيلم تونسي يسلط الضوء على الهجرة الإفريقية داخل القارة

في إطار المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة للدورة 36 من أيام قرطاج السينمائية (13 – 20 ديسمبر 2025)، تابع جمهور الفن السابع مساء أمس الثلاثاء بمسرح الأوبرا بمدينة الثقافة بتونس فيلم "سماء بلا أرض" للمخرجة التونسية أريج السحيري، وذلك أمام شبابيك مغلقة. ويعدّ هذا الفيلم ثالث عمل روائي طويل في مسيرة السحيري، ويأتي امتدادا لاهتماماتها السينمائية بالقضايا الاجتماعية المرتبطة بالهجرة والهوية والعيش المشترك.
فيلم "سماء بلا أرض" الذي عرض في مهرجان كان السينمائي، وعديد المهرجانات الدولية الأخرى حيث حاز عدة جوائز في بروكسال واسبانيا ومراكش، يتناول مسألة هجرة الأفارقة من دول جنوب الصحراء داخل القارة الافريقية نفسها من خلال تتبّع مسارات ثلاث نساء يعشن في تونس وينحدرن من خلفيات اجتماعية مختلفة. تتمحور الأحداث حول "ماري" وهي راعية دينية إيفوارية وصحفية سابقة تأوي في مسكنها "ناني" وهي أم شابة تبحث عن مستقبل أفضل، و"جولي" طالبة في الجامعة تحمل آمال عائلتها المقيمة في بلدها الأصلي. وتتغير طبيعة هذا التعايش عندما تستقبل النساء الطفلة كنزة البالغة من العمر 4 سنوات وهي الناجية الوحيدة من حادث غرق لتتحول العلاقة بين الشخصيات إلى ما يشبه عائلة غير مستقرة في سياق اجتماعي متوتر.
يعرض الفيلم (وهو من إنتاج مشترك تونسي فرنسي قطري)، واقع المهاجرين الأفارقة في تونس بعيدا عن الصورة النمطية المرتبطة بالهجرة نحو أوروبا، مركزا على الهجرة داخل القارة الإفريقية نفسها وهي زاوية نظر تؤكد المخرجة أنها نادرا ما تحضر في الأعمال السينمائية رغم أنها تمثل النسبة الأكبر من حركات التنقل في إفريقيا. ويعتمد الفيلم على أسلوب إخراجي يزاوج بين السينما الروائية والبعد التوثيقي حيث تتداخل عناصر من الواقع اليومي مع البناء الدرامي. ويظهر ذلك في بعض المشاهد خلال التصوير منها بالخصوص إدماج أحداث واقعية غير مبرمجة في مسار الفيلم مثل شجار بين أطفال تونسيين وآخرين من الجالية الإفريقية. كما تزامنت بعض الوقائع الحقيقية مع مشاهد مكتوبة في السيناريو ما عزز قرب الفيلم من الواقع الاجتماعي الذي يصوره.
وقد اختارت السحيري تصوير جزء من العمل في فضاء عبادة حقيقي، وهو عبارة عن منزل حوله المهاجرون إلى كنيسة، وهو ما منح الموقع وظيفة تتجاوز الديكور ليصبح مجالا للتفاعل والتعبير بالنسبة إلى بعض المهاجرين المشاركين في الفيلم وكذلك لأعضاء من فريق العمل.
ويضم الفيلم مزيجا من الممثلين المحترفين وغير المحترفين. وأسند دور "ماري" إلى الممثلة "عايسا مايغا" بعد أن تخلت المخرجة عن فكرة إسناد الدور إلى راعية دينية حقيقية بهدف توفير هامش أوسع في البناء الدرامي للشخصية. ويشارك في العمل أيضا كل من "ديبورا لوبه ناني" و"ليتيسيا كي" وإستيل كينزا دوغبو"، إلى جانب الممثلين التونسيين فؤاد زعزاع ومحمد قريع.
ولا تقدم أريج السحيري في "سماء بلا أرض" أطروحة مباشرة وإنما يطرح مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالمسؤولية الجماعية تجاه المهاجرين وبمصير الأطفال الناجين من مآسي الهجرة غير النظامية خاصة أولئك الذين فقدوا ذويهم. ويطرح الفيلم تساؤلا حول الجهة التي تتحمل مسؤولية هؤلاء الأطفال هل هي المجتمعات التي استقبلتهم أم تلك التي غادروها؟
ويبرز الفيلم أن التوترات والصراعات لا تقتصر على العلاقة بين المهاجرين والمجتمع المضيف، فهي تمتد أيضا إلى داخل مجتمع المهاجرين نفسه. فعلى الرغم من أن ظروف الهشاشة والضغط الاجتماعي يفترض أن يتعزز التضامن بينهم، يكشف "سماء بلا أرض" عن وجود تنافس وخلافات ناتجة عن اختلاف الخلفيات الاجتماعية وتباين الأوضاع القانونية وضيق الموارد. وقد أظهر العمل كيف أن هذه التوترات قد حولت فضاءات يفترض أن تكون حاضنة، إلى أماكن صراع صامت بما يعكس تعقيدات الواقع الذي يعيشه المهاجرون بعيدا عن الصورة المثالية للتكافل الجماعي.
كما يتطرق الفيلم كذلك إلى مسألة تجارة الممنوعات التي يجد فيها بعض المهاجرين الحل "القسري" لتوفير الموارد المالية. ففي ظل غياب فرص العمل القانونية وصعوبة الاندماج في الدورة الاقتصادية الرسمية، يبرز الفيلم كيف يلجأ بعضهم إلى تجارة الممنوعات أو إلى أنشطة غير قانونية كوسيلة للبقاء. ويقدم الفيلم هذه الظاهرة في سياقها الاجتماعي دون تبرير أو إدانة مباشرة مسلطا الضوء على البنية التي تدفع الأفراد إلى مثل هذه المسارات ومبرزا كيف يتحول الضغط الاقتصادي إلى عامل إضافي يعمّق هشاشة أوضاعهم ويغذي مناخ التوتر العام.
وفي ضوء ما يقدمه الفيلم من تركيز أساسي على تجارب المهاجرين الأفارقة في تونس، تساءل عدد ممن شاهدوا هذا الفيلم، الحاصل على دعم من وزارة الشؤون الثقافية، عن شروط منح الدعم العمومي والاستفادة منه وعلاقة ذلك بتناول العمل السينمائي لانشغالات التونسيين من جهة وضرورة أن يعكس ملامح الثقافة التونسية بوصفه مرآة لها؟ وهو تساؤل لا ينتقص من مشروعية القضايا التي يطرحها العمل، بقدر ما يفتح نقاشا أوسع حول سياسات الدعم العمومي في المجال الثقافي وحدود التمثيل ودور السينما في الموازنة بين الانفتاح على القضايا العابرة للحدود والالتصاق بالتحولات الاجتماعية المحلية.




13° - 20°







