مهرجان الحمامات الدولي: حين يروي المسرح حكاية البحر والفن والحضارة

في الليالي الصيفية التي تهمس فيها النسمات العذبة برائحة البحر والياسمين، تنبعث من مدينة الحمامات أصوات الموسيقى التونسية والعالمية في توليفة فريدة تجمع بين الإبداع المعاصر وعبق التاريخ. هناك حيث يحتضن المسرح البحر، تنطلق الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي، من 11 جويلية إلى 13 أوت 2025، حاملة معها إرثا فنيا وثقافيا امتد لأكثر من نصف قرن.
تأسس مهرجان الحمامات الدولي سنة 1964، وكان وما يزال واحدا من أعرق المواعيد الثقافية والفنية في تونس والعالم العربي. وقد استقر منذ انطلاقته في أحضان مسرح مفتوح صُمّم على طراز يوناني-روماني (نيو-إغريقي)، يُطل مباشرة على البحر وكأنّ الأمواج التي تتلاطم على شاطئ الرمال الذهبية تصفق لعروضه تحت أنوار القمر.
قام بتصميم المسرح المعماري الفرنسي "بول شيميتوف" (Paul Chemetov)، ونفذته أياد تونسية بإشراف "أرمان ميبيال" (Armand Meppiel)، بتمويل من مؤسسة غولبنكيان البرتغالية. ويتّسع هذا الفضاء الفريد لما يقارب 1100 متفرج، وهو يُعدّ من أجمل المسارح المفتوحة في حوض البحر الأبيض المتوسط إذ يجمع في بنائه بين روح المسرح الإغريقي العتيق وفضاء المسرح الإليزابيثي الحميم.
على خشبته، رقص موريس بيجار ولامست قدما ألفين آيلي وألوين نيكولاي الأرضية ذاتها التي شهدت على عروض مسرحية وموسيقية خالدة، قدمتها أهم الفرق العربية والعالمية من أوروبا وافريقيا وآسيا إلى أمريكا.
دار سيباستيان: موطن الحلم والفن
لكن المسرح ليس سوى صفحة من كتاب، إذ تمتد خلفه دار سيباستيان، التي شيّدها الأرستقراطي الروماني (نسبة إلى دولة رومانيا) جورج سيباستيان سنة 1927، متأثرا بالمعمار التونسي التقليدي، فجاءت النتيجة تحفة معمارية أنيقة تأسر كل من زارها.
وتقع دار سيباستيان وسط حديقة نباتية وارفة غرس فيها صاحبها أشجار السرو والقوارص والزهور النادرة، وأقام فيها ضيوفه من نخبة الأدباء والفنانين مثل أندريه جيد وبول كلي وألبيرتو جياكوميتي وجان كوكتو. ومن بين من عبروا عتبة داره أيضا غريتا غاربو والملك إدوارد الثامن.
وفي زمن الحرب العالمية الثانية، تحوّلت الفيلا إلى مقر للماريشال الألماني رومل، ثم أقام فيها وينستون تشرشل لاحقا وكتب فيها جزءا من مذكراته.
وقد خُصص تصميم الأثاث الداخلي للفنان الفرنسي الشهير جان ميشال فرانك الذي جعل من "الأسود والأبيض" ثنائية بصرية راقية لا تزال واضحة في بقايا الديكور إلى اليوم.
من إقامة أرستقراطية إلى بيت للثقافة المتوسطية
بعد الاستقلال، اشترت الدولة التونسية العقار سنة 1962 وحوّلته إلى مركز ثقافي دولي، ثم أصبح سنة 2014 يحمل اسم "دار المتوسط للثقافة والفنون". ومنذ سنة 1999، أُدرجت الفيلا وحديقتها ضمن قائمة التراث المعماري المصنف في تونس.
وهذا المركز اليوم هو عضو في الشبكة الدولية للمراكز الثقافية ذات الإقامات الفنية. وهو يواصل لعب دوره كجسر حضاري بين جنوب البحر المتوسط وشماله.
ولا تزال دار سيباستيان تحافظ على وهجها وسحرها، وتستقطب الفنانين والضيوف من مختلف أنحاء العالم. وخلال ليالي مهرجان الحمامات، تحاكي الموسيقى ذاكرة المكان وتعيد إلى الواجهة روح سيباستيان، ذلك العاشق الكبير للفن والجمال.